فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{إِنَّا كفيناك المستهزءين}
ثم أخبره تعالى أنه كفاه المستهزئين بمصائب أصابتهم لم يسع فيها الرسول ولا تكلف لها مشقة.
قال عروة وابن جبير هم خمسة الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث ومن بني خزاعة الحرث بن الطلاطلة.
قال أبو بكر الهذلي قلت للزهري أن ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين فقال ابن جبير هو الحرث بن عيطلة وقال عكرمة هو الحرث بن قيس فقال الزهري صدقا إنه عيطلة وأبوه قيس وذكر الشعبي في المستهزئين هبار بن الأسود وذلك وهم لأن هبارًا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة.
وعن ابن عباس أن المستهزئين كانوا ثمانية وفي رواية مكان الحرث بن قيس عدي بن قيس.
وقال الشعبي وابن أبي بزة كانوا سبعة فذكر الوليد والحرث بن عدي والأسودين والأثرم وبعكك ابني الحرث بن السباق وكذا قال مقاتل إلا أنه قال مكان الحرث بن عدي الحرث بن قيس السهمي وذكر المفسرون والمؤرخون أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه فمنعه الكبر أن يطامن لنزعه فأصاب عرقًا في عقبه.
قال قتادة ومقسم وهو الأكحل فقطعه فمات وأومأ إلى أخمص العاصي فدخلت فيه شوكة.
وقيل ضربته حية فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات وأومأ إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي وهلك وأشار إلى أنف الحرث بن قيس فامتخط قيحًا فمات.
وقيل أصابته سموم فاسودّ حتى صار كأنه حبشي فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا الباب في وجهه فصار يطوف في شعاب مكة حتى مات وفي بعض ما أصاب هؤلاء اختلاف والله أعلم.
وقال مقاتل أصاب الأثرم أو بعككًا الدبيلة والآخر ذات الجنب فماتا فسوف يعلمون وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وجعلهم إلهًا مع الله في الآخرة كما جوزوا في الدنيا وكنى بالصدر عن القلب لأنه محله وجعل سبب الضيق ما يقولون وهو ما ينطقون به من الاستهزاء والطعن فيما جاء به ثم أمره تعالى بتنزيهه عن ما نسبوا إليه من اتخاذ الشريك معه مصحوبًا بحمده والثناء على ما أسدي إليه من نعمة النبوة والرسالة والتوحيد وغيرها من النعم فهذا في المعتقد والفعل القلبي وأمره بكونه من الساجدين والمراد والله أعلم من المصلين فكنى بالسجود عن الصلاة وهي أشرف أفعال الجسد وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ولما كان الصادر من المستهزئين اعتقادًا وهو فعل القلب وقولًا وهو ما يقولون في الرسول وما جاء به وهو فعل جارحة أمر تعالى بما يقابل ذلك من التنزيه لله ومن السجود وهما جامعان فعل القلب وفعل الجسد ثم أمره تعالى بالعبادة التي هي شاملة لجميع أنواع ما يتقرب بها إليه تعالى وهذه الأوامر معناها دُم على كذا لأنه صلى الله عليه وسلم ما زال متلبسًا بها أي دم على التسبيح والسجود والعبادة والجمهور على أن المراد باليقين الموت أي ما دمت حيًا فلا تخل بالعبادة وهو تفسير ابن عمر ومجاهد والحسن وقتادة وابن زيد ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عثمان بن مظعون عند موته أما هو فقد رأى اليقين ويروى فقد جاءه اليقين وليس اليقين من أسماء الموت وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل فسمي يقينًا تجوزًا أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه.
وقال ابن عطية ويحتمل أن يكون المعنى حتى يأتيك اليقين في النصر الذي وعدته انتهى وقاله ابن بحر قال اليقين النصر على الكافرين انتهى وحكمة التغيية باليقين وهو الموت أنه يقتضي ديمومة العبادة ما دام حيًا بخلاف الاقتصار على الأمر بالعبادة غير مغيًا لأنه يكون مطلقًا فيكون مطيعًا بالمرة الواحدة والمقصود أن لا يفارق العبادة حتى يموت. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِنَّا كفيناك المستهزءين}
بقمعهم وتدميرهم، قيل: كانوا خمسةً من أشراف قريش: الوليدُ بن المغيرة، والعاصِ بنُ وائل، والحارثُ بن قيس بن الطَلاطِلةَ، والأسودُ بنُ عبدِ يغوثَ، والأسودُ بنُ المطلب، يبالغون في إيذاءِ النبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به، فنزل جبريلُ عليه الصلاة والسلام فقال: قد أُمرت أن أكفيكَهم، فأومأ إلى ساق الوليد، فمرَّ بنِبال، فتعلق بثوبه سهمٌ، فلم ينعطف تعظمًا لأخذه، فأصاب عِرقًا في عَقِبه، فقطعه، فمات، وأومأ إلى أخمَص العاص، فدخلت فيه شوكةٌ، فقال: لُدغتُ، وانتفخت رجلُه حتى صارت كالرّحى، فمات، وأشار إلى عيني الأسودِ بن المطلب، فعمِيَ، وإلى أنف الحارث، فامتخط قيحًا، فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوثَ وهو قاعدٌ في أصل شجرةٍ، فجعل ينطح برأسه الشجرةَ ويضرب وجهه بالشوك حتى مات.
{الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} وصفهم بذلك تسليةً لرسوله صلى الله عليه وسلم وتهوينًا للخطب عليه بإعلام أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام، بل اجترأوا على العظيمة التي هي الإشراك بالله سبحانه {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبةَ ما يأتون ويذرون.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}
من كلمات الشِّرك والطعنِ في القرآن والاستهزاء به وبك، وتحليةُ الجملة بالتأكيد لإفادة تحقيقِ ما تتضمنه من التسلية، وصيغةُ الاستقبال لإفادة استمرارِ العلم حسب استمرارِ متعلَّقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة.
{فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} فافزَع إلى الله تعالى فيما نابك من ضيق الصدرِ والحرَج بالتسبيح والتقديس ملتبسًا بحمده، وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإشعارِ بعلة الحُكم، أعني الأمرَ بالتسبيح والحمد {وَكُنْ مّنَ الساجدين} أي المصلّين يكفِك ويكشِفِ الغمَّ عنك، أو فنزِّهْه عما يقولون ملتبسًا بحمده على أنْ هداك للحق المبين، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه إذا حزَبه أمرٌ فزِع إلى الصلاة.
{واعبد رَبَّكَ} دُمْ على ما أنت عليه من عبادته تعالى، وإيثارُ الإظهار بالعنوان السالف آنفًا لتأكيد ما سبق من إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإشعارِ بعلة الأمرِ بالعبادة.
{حتى يَأْتِيَكَ اليقين} أي الموتُ، فإنه مُتيقَّنُ اللحوق بكل حي مخلوق، وإسنادُ الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجِّهٌ إلى الحيّ طالبٌ إليه، والمعنى دم على العبادة ما دمت حيًّا من غير إخلالٍ بها لحظة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورةَ الحِجْر كان له من الأجر عشرُ حسنات بعدد المهاجِرين والأنصارِ والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم». اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّا كفيناك المستهزءين}
بك أو بك وبالقرآن كما روي عن ابن عباس بقمعهم وتدميرهم.
أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل وابن مردويه بسند حسن قال: «المستهزؤون الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عيطل السهمي والعاص بن وائل فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه فأراه الوليد فأومأ جبريل عليه السلام إلى أكحله فقال صلى الله عليه وسلم: ما صنعت شيئًا قال: كفيتكه، ثم أراه الأسود بن المطلب فأومأ إلى عينيه فقال: ما صنعت شيئًا قال: كفيتكه، ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه فقال: ما صنعت شيئًا قال: كفيتكه؛ ثم أراه الحرث فأومأ إلى بطنه فقال: ما صنعت شيئًا قال: كفيتكه، ثم أراه العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه فقال: ما صنعت شيئًا قال: كفيتكه.
فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلًا فأصاب أكحله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بني ألا تدفعون عني قد هلكت أطعن بالشوك في عيني فجعلوا يقولون: ما نرى شيئًا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها؛ وأما الحرث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج رجيعه من فيه فمات منه، وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل في أخمص قدمه شوكة فقتلته»
، وقال الكرماني في شرح البخاري: إن المستهزئين هم السبعة الذين ألقوا الأذى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي كما جاء في حديث البخاري وهم: عمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن معيط، وعمارة بن الوليد، وفي الأعلام للسهيلي أنهم قذفوا بقليب بدر وعدهم بخلاف ما ذكر، وفي الدر المنثور وغيره روايات كثيرة مختلفة في عدتهم وأسمائهم وكيفية هلاكهم، وعد الشعبي منهم هبار بن الأسود.
وتعقبه في البحر بأن هبارًا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة فعده وهم، وهذا متعين إذا كانت كفايته عليه السلام إياهم بالإهلاك كما هو الظاهر، وقد ذكر الإمام نحو ما ذكرنا من اختلاف الروايات ثم قال: ولا حاجة إلى شيء من ذلك، والقدر المعلوم أنهم كانوا طائفة لهم قوة وشوكة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على مثل هذه السفاهة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في علو قدره وعظم منصبه، ودل القرآن على أن الله سبحانه أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم.
{الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} أي اتخذوا إلهًا يعبدونه معه تعالى، وصيغة الاستقبال لاستحضار الحال الماضية، وفي وصفهم بذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهوين للخطب عليه عليه الصلاة والسلام بالإشارة إلى أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم بل اجترؤا على العظيمة التي هي الإشراك به سبحانه {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ما يأتون ويذرون.
وفيه من الوعيد ما لا يخفى.
وفي البحر أنه وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وشركهم في الآخرة كما جوزوا في الدنيا.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}
من كلمات الشرك والاستهزاء، وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقق ما تتضمنه من التسلية.
وصيغة المضارع لإفادة استمرار العلم حسب استمرار متعلقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة.
{فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ}
فافزع إلى ربك فيما نابك من ضيق الصدر بالتسبيح ملتبسًا بحمده أي قل: سبحان الله والحمد لله أو فنزهه عما يقولون حامدًا له سبحانه على أن هداك للحق، فالتسبيح والحمد بمعناهما اللغوي كما أنهما على الأول بمعناهما العرفي أعني قول تينك الجملتين، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من اللطف به عليه الصلاة والسلام والإشعار بعلة الحكم أعني الأمر المذكور {وَكُنْ مّنَ الساجدين} أي المصلين ففيه التعبير عن الكل بالجزء.
وهذا الجزء على ما ذهب إليه البعض أفضل الأجزاء لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وليس هذا موضع سجدة خلافًا لبعضهم.
وفي أمره صلى الله عليه وسلم بما ذكر إرشاد له إلى ما يكشف به الغم الذي يجده كأنه قيل: افعل ذلك يكشف عنك ربك الغم والضيق الذي تجده في صدرك ولمزيد الاعتناء بأمر الصلاة جىء بالأمر بها كما ترى مغايرًا للأمر السابق على هذا الوجه المخصوص.
وفي ذلك من الترغيب فيها ما لا يخفى.
وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة.
وصح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» وذكر بعضهم أن في الآية إشارة إلى الترغيب بالجماعة فيها.
وإن في عدم تقييد السجود بنحو له أو لربك إشارة إلى أنه مما لا يكاد يخطر بالبال إيقاعه لغيره تعالى فتدبر.
{واعبد رَبَّكَ} دم على ما أنت عليه من عبادته سبحانه، قيل: وفي الإظهار بالعنوان السالف آنفًا تأكيد لما سبق من إظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم والإشعار بعلة الأمر بالعبادة {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} أي الموت كما روي عن ابن عمر.
والحسن.
وقتادة.
وابن زيد، وسمي بذلك لأنه متيقن اللحوق بكل حي، وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه، والمعنى دم على العبادة ما دمت حيًا من غير إخلال بها لحظة، وقال ابن بحر: اليقين النصر على الكافرين الذي وعده صلى الله عليه وسلم، وأيًا مّا كان فليس المراد به ما زعمه بعض الملحدين مما يسمونه بالكشف والشهود، وقالوا: إن العبد متى حصل له ذلك سقط عنه التكليف بالعبادة وهي ليست إلا للمحجوبين، ولقد مرقوا بذلك من الدين وخرجوا من ربقة الإسلام وجماعة المسلمين.
وذكر بعض الثقات أن هذا الأمر كان بعد الإسراء والعروج إلى السماء، أفترى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتضح له ليلتئذٍ صبح الكشف والشهود ولم يمن عليه باليقين عظيم الكرم والجود؟ الله أكبر لا يتجاسر على ذلك من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو رزق حبة خردل من عقل ينتظم به في سلك الإنسان، وأيضًا لم يزل صلى الله عليه وسلم ما دام حيًا آتيًا بمراسم العبادة قائمًا بأعباء التكليف لم ينحرف عن الجادة قدر حادة أفيقال: إنه لم يأته عليه الصلاة والسلام حتى توفي ذلك اليقين ولذلك بقي في مشاق التكليف إلى أن قدم على رب العالمين؟ لا أرى أحدًا يخطر له ذلك بجنان ولو طال سلوكه في مهامه الضلالة وبان.
نعم ذكر بعض العلماء الكرام في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} [الحجر: 97]. إلخ. كلامًا متضمنًا شيئًا مما يذكره الصوفية لكنه بعيد بمراحل عن مرام أولئك اللئام، ففي الكشف أنه تعالى بعدما هدم قواعد جهالات الكفرة وأبرق وأرعد بما أظهر من صنيعه بالقائلين نحو مقالات أولئك الفجرة فذلك الكلام بقوله سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} [الحجر: 97]. مؤكدًا هذا التأكيد البالغ الصادر عن مقام تسخط بالغ وكبرياء لينفس عن حبيبه عليه الصلاة والسلام أشد التنفيس، ثم أرشد إلى ما هو أعلى من ذلك مما تأهله لمسامرة الجليس للجليس وقال تعالى: {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} [الحجر: 98]. إشارة إلى التوجه إليه بالكلية والتجرد التام عن الأغيار والتحلي بصفات من توجه إليه بحسن القبول والافتقار إذ ذلك مقتضى التسبيح والحمد لمن عقلهما، ثم قال سبحانه: {وَكُنْ مّنَ الساجدين} [الحجر: 98]. دلالة على الاقتراب المضمر فيه لأن السجود غاية الذلة والافتقار وهو مظهر الفناء حتى نفسه وشرك البقاء بمن أمره بخمسه، وقوله تعالى شأنه: {واعبد رَبَّكَ} إلخ. ظاهره ظاهر وباطنه يومي إلى أن السفر في الله تعالى لا ينقطع والشهود الذي عليه يستقر لا يحصل أبدًا فما من طامة إلا وفوقها طامة:
إذا تغيبت بدا ** وإن بدا غيبني

وعن لسان هذا المقام {رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا} [طه: 114]. اهـ، هذا ولا يخفى مما ذكره غير واحد من المفسرين مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها، وأن قوله سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} [الحجر: 97]. إلخ. في مقابلة {وَقَالُواْ يا أَيُّهَا الذي نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر} [الحجر: 6]، والله تعالى أعلم وأحكم. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}
أي: حفظناك من شرهم، فلا ينالك منهم ما يحذر، وهذا ضمان منه تعالى، له صلوات الله عليه؛ لينهض بالصدع نهضة من لا يهاب ولا يخشى. كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
{الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ} وصفهم بذلك؛ تسليةً له عليه الصلاة والسلام، وتهوينًا للخطب عليه، بأنهم أصحاب تلك الجريمة العظمى، التي هي أكبر الكبائر، التي سيخذلون بسببها. كما قال: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي: عاقبة أمرهم، وقد جوَّز في الموصول أن يكون صفة للمستهزئين ومنصوبًا بإضمار فعل، ومرفوعًا بتقدير هم، وفي الآية وعيد شديد لمن جعل معه تعالى معبودًا آخر، وقد أشار كثير من المفسرين إلى أن قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} عنى به ما عجله من إهلاكهم. كما روى ابن إسحاق عن عروة: أن عظماء المستهزئين كانوا خمسة نفر، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم: من بني أسد أبو زَمْعَة، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه، فقال: «اللهم أعم بصره، وأثكله ولده» ومن بني زهرة الأسود، ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة، ومن بني سهم العاص بن وائل، ومن خزاعة الحارث. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء؛ أنزل الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} إلى قوله: {فَسَوفَ يَعْلمُونَ}. قال ابن إسحاق عن عروة: إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فقام وقام رسول الله إلى جنبه، فمر به الأسود، فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه، ومر به الوليد فأشار إلى أثر جراح بأسفل كعب رجله كان أصابه قبل ذلك بسنتين فانتقض به فقتله، ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه، فخرج على حمار يريد الطائف، فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه، ومر به الحارث فأشار إلى رأسه فامتخط قيحًا فقتله. انتهى.
ومثله ما رواه ابن مسعود: قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي في ظل الكعبة، وناس من قريش وأبو جهل قد نحروا جزورًا في ناحية مكة، فبعثوا فجاؤوا بسلاها وطرحوه بين كتفيه وهو ساجد. فجاءت فاطمة فطرحته عنه، فلما انصرف قال: «اللهم عليك بقريش وبأبي جهل وعتبة وشيبة والوليد بن عُتْبَة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط».
قال ابن مسعود رضي الله عنه: فلقد رأيتهم قتلى في قليب بدر.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} لما ذكر تعالى أن قومه يهزأون ويسفهون؛ أعلمه بما يعلمه سبحانه منه، من ضيق صدره وانقباضه بما يقولون؛ لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك. ثم أعلمه بما يزيل ضيق الصدر والحزن، وذلك أمره من التسبيح والتحميد والصلاة، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45]، وقال: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، ومعلوم أن في الإقبال على ما ذكر، استنزال الإمداد الرباني بالنصر والمعونة؛ لقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، و[الأنفال: 46]، وقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
وقد روي في شمائله صلوات الله عليه؛ أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، تأويلًا لما ذكر.
قال أبو السعود: وتحلية الجملة بالتأكيد؛ لإفادة تحقيق ما تضمنته من التسلية، وفي التعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام، والإشعار بعلة الحكم، أعني الأمر بالتسبيح والحمد، والمراد من {الساجدين} المصلين، من إطلاق الجزء على الكل، و{اليقين}: الموت، فإنه متيقن اللحوق بكل حيّ مخلوق، وإسناد الإتيان إليه؛ للإيذان بأنه متوجه إلى الحيِّ طالب للوصول إليه، والمعنى: دُمْ على العبادة ما دمت حيًا. كقوله تعالى في سورة مريم: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31].
وقيل: المراد بـ {اليقين}: تعذيب هؤلاء وأن ينزل بهم ما وعده، ولا ريب أنه من المتيقن، إلا أن إرادة الموت منه أولى، يدلُّ له قوله تعالى إخبارًا عن أهل النار: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 43- 47]، وما في الصحيح عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، قالت أم العلاء: رحمة الله عليك أبا السائب! فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله أكرمه؟» فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! فمن؟ فقال: «أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير».
تنبيه:
قال الحافظ ابن كثير: يستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} على أن العبادة، كالصلاة ونحوها، واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتًا، كما في صحيح البخاري عن عِمْرَان بن حصين رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب»، ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين: المعرفة. فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، وهذا كفر وضلال وجهل. فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم، أعلم الناس بالله، وأعرافهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد الناس وأكثرهم مواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. انتهى. اهـ.